القسام- قوة القيم والإيمان في مواجهة تكنولوجيا الموت العنصرية

لطالما اعتبر العديد من المؤرخين المؤسسات العسكرية ذات النفوذ المتعاظم، بمثابة حجر الزاوية في الحفاظ على توازن القوى في مواجهة التهديدات الخارجية، وصمام أمان لاستقرار الحكومات وسيادة الدول، في إطار ما يعرف بـ"العنف المنظم". إلا أن هذا التصور، كما يرى بعض علماء الذرة، مجرد وهم محض، إذ يعتبرون مبدأ "توازن القوى" سيئ السمعة نظامًا حربيًا متكاملًا لا يفضي إلا إلى تكرار الإخفاقات، أو إشعال فتيل حروب جديدة من رماد صراعات سابقة لم تحقق أهدافها المرجوة.
لم يعد من المقبول اليوم اعتبار هذا النفوذ العسكري الجامح، الذي قد يتحول إلى ضرب من ضروب الجريمة التكنولوجية المنظمة، مجرد ممارسة مشروعة للعنف. كما لم تعد الذرائع الأمنية المتفلتة من الضوابط الأخلاقية مقنعة لتبرير هذا النفوذ، طالما أنه يفتح الأبواب على مصراعيها أمام جحيم الصراعات، ويضج بالصواريخ النووية الفتاكة، والكتائب الدموية التي تهدد بنشر الخراب والدمار.
لم يكن المؤرخون الغربيون، وعلى رأسهم نعوم تشومسكي، مخطئين عندما توقعوا انهيار النظام العالمي برمته على يد الآلة التي تفوقت على الإنسان في الغطرسة والبلطجة. ومع ذلك، نشهد اليوم صعود فئة تسعى جاهدة لتصحيح مسار التاريخ، من خلال استعادة الإنسان من براثن آليات الاستلاب ومحاولات تجريده من قيمه الإنسانية النبيلة، وإعادته إلى زمن الفروسية، عندما كان القوس يمثل قمة الشرف العسكري. ولنا أن نتأمل كيف خطفت "الولاعة" في يد المقاوم الفلسطيني أنظار العالم بأكمله، وأعادت الاعتبار لقيمة الجندي المقاتل في عصر جيوش الروبوتات والأتمتة العسكرية.
إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ليست مجرد قوة مسلحة، بل هي قوة متسلحة بالقيم والمبادئ، ورسالة إيمانية تفوق في شجاعتها ما يتمتع به الجندي الإسرائيلي أو الغربي، الذي غالبًا ما يكون ملحدًا لا يؤمن بقضية ولا مبدأ.
أنماط الحروب وأخلاقيات التكنولوجيا
لقد سبق لفولتير أن أشار إلى أولئك الذين يرفضون اعتبار القتل الجماعي جريمة طالما أنه يرتكب في سياق الحرب، فهم يعتبرون أن الحرب تبرر كل شيء لأنها تجسد القوة المطلقة. ولهذا السبب، فرضت الإمبراطورية الرومانية العظمى التجنيد الإجباري، وجندت أفضل المرتزقة لتشكيل جيشها الأسطوري، بينما كانت أسبرطة ترسل الأطفال ابتداءً من سن السابعة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية التي تستمر حتى سن الستين، في مجتمعات أوروبية كرست تاريخها بأكمله لساحات المعارك.
تلك أمم مجدت الحروب وعبدت آلهة الدم، وقدمت لها القرابين البشرية، في عبودية مطلقة لقوى الشر العمياء!
لم يختلف الواقع الغربي المعاصر كثيرًا عن جذوره الفكرية الماضية، فحضارة القوة لا تزال هي الحضارة المهيمنة، حيث أصبحت تكنولوجيا السلاح الملجأ الآمن لتجار الساسة وأصحاب النفوذ، ليس لأنها توفر بيئة أخلاقية للصراعات الدولية تحد من الخسائر البشرية والعنف، بل بسبب ما نشر من تحليلات لأكاديميين ومؤرخين تنبئ بانحسار التجنيد الإجباري في المستقبل القريب، مقابل الدور المحوري للقوة النارية التكنولوجية في إدارة النزاعات وإطالة أمد الحروب، وهو ما نشاهده اليوم في أوكرانيا وغزة، التي توعد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بشن حرب لا هوادة فيها ضدها في كل مكان وإلى أجل غير مسمى!
فأين هي جيوشنا العربية المتهالكة من كل هذا؟ إننا لا نراها إلا في حفلات التملق والتنصيب، وبالتالي لا يمكن اعتبارها أمة مسلحة على طريقة نابليون، لأن سلاحها يعاني من التآكل ورصاصها غير فعال، ولا يصلح إلا لحراسة عروش بالية، لا تعبر عن مفهوم الدولة القومية، ولا تليق حتى بعرضها في متاحف الشمع أو حروب الدانتيل!
لقد أثارت الحرب السيبرانية جدلًا أخلاقيًا واسعًا بسبب افتقارها إلى مظاهر الشهامة والبطولة التي نشاهدها في ساحات القتال التقليدية، مما قلص من تفاعل الجماهير وعواطفهم الجياشة مع إيقاع المعركة والتمثل البطولي للمحارب.
كاد هذا المشهد البطولي أن يندثر لولا اللقطات الموثقة للمقاومة الفلسطينية، التي تداولها نشطاء العالم على وسائل التواصل الاجتماعي، مأخوذين بمشاهد الإقدام والاستبسال والاشتباك من "المسافة صفر".
لقد كسبت حركة حماس المعركة الأخلاقية والإعلامية بجدارة، وأسقطت الأباطيل الغربية، التي تروج لأهداف عنصرية لإعادة تدوير الحملات الصليبية وأسطورة الأرض الموعودة. حتى الوعي العالمي بات ناضجًا بما يكفي لرفض تكرار نفس الرواية القديمة، وكأنه كان ينتظر قوة بمواصفات مختلفة، قوة روحية وفكرية، لكي يتماهى معها ويستلهم منها أسباب ثورته على المفاهيم المشوهة وأساليب التضليل وتزييف الحقائق، فكانت عملية "طوفان الأقصى" بمثابة الشرارة التي أيقظت هذا الوعي.
إن حماس ليست مجرد قوة مسلحة، بل هي قوة متسلحة بالقيم والمبادئ، ورسالة إيمانية تفوق في شجاعتها ما يتمتع به الجندي الإسرائيلي أو الغربي، الذي غالبًا ما يكون ملحدًا لا يؤمن بقضية ولا مبدأ، وغير مستعد لخوض حرب خارج الشاشات والتطبيقات الرقمية، لأن المعركة بالنسبة إليه مجرد تسلية أو لعبة أزرار، يخوضها بعقليته السوداوية القائمة على تكنولوجيا الموت!
وهذا بالتحديد ما صنع الفارق الأخلاقي والبطولي بين النموذجين، حيث أعاد المقاوم الفلسطيني الاعتبار للجندية كالتزام أخلاقي تحكمه معايير العزة والكرامة، ويستمد مقومات القوة من التربية السليمة للنفس، ويكشف عن معان جديدة للقتال والصمود والتضحية، تتجاوز قدرة البشر واستيعاب العقل الغربي، الذي لا يتوقع بالطبع أن يضحي جنوده بأرواحهم في سبيل التكنولوجيا أو الدعاية، أو حتى في سبيل العنصرية!
سوق سوداء للمرتزقة والحيوانات
يستند توماس فريدمان إلى علم النفس التطوري لتفسير طبيعة الصراع بمنطق حيواني، ويعيد تدوير خطاب بابا الفاتيكان أوربانوس الثاني عام 1095، عندما دعا الأوروبيين إلى إطلاق العنان للكراهية والبحث عن موارد الرزق والسكن في أراضي كنيسة القيامة، ثم نزعها من العرق الملعون، مقدمًا لهم حروبًا من أجل البقاء على غرار الحيوانات، وصكوك غفران تدخلهم الجنة.. فهل هناك جنة للحيوانات غير الغابة، يا بابا؟!
الحروب بهذا الفهم المشوه لن تكون "عملية سياسية بوسائل أخرى"، فالحيوانات لا تعرف السياسة، ولم تعرف الخصخصة التي عمت أوروبا في عصورها المظلمة، حيث كانت الإمبراطوريات "البيضاء الفاضلة" تشيد أجنحة عسكرية "5 نجوم" لمرتزقة تشتريهم من سوق العبيد، تمامًا كما يفعل الاحتلال اليوم، إذ يلتقط المرتزقة من السوق السوداء العنكبوتية، ليلقي بهم في أتون الحرب!
لا يختلف فريدمان عن زميله في مزرعة الحيوانات لجورج أورويل، جان جاك روسو، الذي اعتبر الحرب شكلًا من أشكال العلاقات بين دول عالم الحيوان، مع العلم أن كبار الجنرالات لم يغادروا الغلاف الفلسفي لمقالة فريدمان، حين رأوا في الحرب حرباء الغابة. فما الذي أبقته هذه الشلة الداروينية لأبناء آدم من حكمة وعقل، يا ربّاه؟!
يقولون لك إن الدول تصنع الحروب كما تصنع الحروب الدول، ما يعني أن الحرب عقيدة وطريقة حياة يؤسسها كهنة السلطة وأصحاب النفوذ، ويتشربها أتباعهم ومريدوهم، أما المال فهو طقس من طقوس الدخول في مسالك العقيدة، وأما الجيش الإسرائيلي فلم يبارح مزرعة عمه أورويل حتى بعد ترقية الغابة إلى مملكة، في مقالة فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز. لكنه نسي أن جيش المرتزقة لا يملك عناصر الانتماء الموجودة في المجتمعات الحيوانية، والتي يستبسل أفرادها في الدفاع عنها حتى الموت، ولذلك لن يجد نتنياهو قردًا محترمًا ليستعين بفئران مأجورة لحماية دولته، فمهام الشرف لا تعطى للُّقطاء أو للفرائس، حتى في عالم الحيوان!
الأمانة الإلهية في سورة العاديات
يقدم موقع أكاديمية جنيف قائمة بأكثر من خمسة وأربعين نزاعًا مسلحًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع ذكر مصادر نشأتها والدعم الأجنبي الذي تتلقاه، بحيث تبدو الميليشيات المتناحرة أشبه بحجارة النرد اليابانية التي يتحكم بها لاعبان يوسعان رقعة اللعب حسب الحاجة.
تدير أمريكا هذه الأحجار في سياق من الشراكة الاستراتيجية، وخصخصة الحروب عبر عملاء مزدوجين، مسلحين مؤقتين أو جيوش بديلة لصالح كيان إسرائيل الذي يفتقر إلى المحاربين الأشداء، مما يؤكد أن الحرب عنصر وجودي لأمريكا وإسرائيل، ولكن بنسق تجاري له وجه إقطاعي يحول المسلح إلى سلعة والجندي إلى كبسة إلكترونية بمواصفات تناسب آلهة الحروب ومتطلبات السوق.
ولهذا تحديدًا لا يمكن اعتبار حركة حماس مجرد حجر نرد في هذه المعركة، فطالما أن حماس فكرة لها منطقها النفسي ومبدؤها الوجودي الذي يتحرك بين الحسنيين: النصر أو الشهادة.
إذا تأملنا الخيول في الرؤية القرآنية، في سورة العاديات تحديدًا، سنجد أن الفروسية هي الرسالة والأمانة. فمشهد الإغارة وما يسبقه من تدرجات ذهنية واستنفار روحي، يصاحبهما تصاعد أدائي محكم لا يشوبه تخاذل ولا تردد، ما هو إلا انعكاس بلاغي للمقومات النفسية للمحارب المسلم الذي لا يتعامل مع الحرب كهدف للبقاء أو الهيمنة، بل كاستثناء لا بد من تجنبه قدر المستطاع، فمن اضطر لا باغيًا ولا عاديًا فالجهاد سنام يقينه.
يتجاوز الإيقاع الفكري للمعركة التي يخوضها مقاتلو حماس ميدان المواجهة إلى مجال أكثر حيوية وامتدادًا، ألا وهو الجنة. وكل ما يحتاجه المحارب لإدراكها هو تكبيرة ورمية وسجدة خلود، وكلها مشاهد حية رسخت صورة "طوفان الأقصى" كقوة مركزية تنطلق من مركز قوة نفسية، تسمو على النزعات الدنيوية وتتحرر من القيود التي تكبل الهمم وتضعف العزائم، بحيث يصبح هذا التشريح التقييمي للأداء هو الحاضنة القيمية لأخلاق المعركة: الحق والغيرة.
حسنًا إذن، الجنة هي الأمانة الإلهية في فكر حركة حماس، أما الحرب التي لا قلب لها فهي في الفكر الدارويني حجر الفلاسفة الصدئ أو العشبة الملعونة للغابة: العنصرية!
